دراسات
إسلامية
المرونة
والتكييف في الأحكام الإسلامية
بقلم : الأستاذ خير رمضان يوسف
وردت في الشريعة قواعد ومبادئ عامة، تتضمن أحكامًا عامة يمكن بسهولة ويسر تطبيقها في كل مكان وزمان . وقد صيغت بكيفية تمكنها من سهولة هذا التطبيق ويسره . كما أن معناها الحق لايمكن أن يتخلف عن أي مستوى عال يبلغه أي مجتمع . ومن ثم يتسع لكل مصلحة حقيقية جديدة للناس . كما أن هذه القواعد والمبادئ تعتبر كالأساس لما يقوم عليها من أحكام جزئية ، ولما يتفرع عنها من فروع(1) . وهو مايثبت لنا إيجابية الأحكام الشرعية وتكييفها للمجتمعات مطلقًا .
ونذكر
بعض هذه القواعد في إطار إعلامي :
أولاً :
مبدأ الشورى :
وهو
مبدأ ثابت وقاعدة كلية لاتتبدل ولاتتغير. وهذه القاعدة يجب العمل بها في كل زمان
ومكان، ولكن وسائل تطبيق قاعدة الشورى متروك للزمن والحياة .. فتطبيق قاعدة الشورى
في مجلس استشاري يضمّ النخبة من أهل الاختصاص والرأي، أو في مجلس انتخابي ينتخبه
الشعب ، أو انتقاء مجالس وزارية من أهل الخبرة والمشورة ، أو انتخاب مجالس محلية
لكل مقاطعة أو بلد .. فهذا كله متروك للأصلح من تجارب البشرية .
فمقصد
الشريعة الأول تطبيق قاعدة الشورى، فليكن التطبيق بأية وسيلة كانت ، وبأية صورة أو
هيئة ارتآها أهل الحل والعقد ، مادامت الدولة بمسؤولها الأول ، ووزرائها، ورجال
الحكم فيها، تحقق قاعدة الشورى ، وتقوم على تنفيذ مبدأ ﴿وَأَمْرُهُمْ شُوْرٰى
بَيْنَهُمْ﴾(2).
وترجع
أهمية الشورى إلى أنها تؤلف قلوب الجماعة ، وهي مسار العقول وسبب إلى الصواب ،
والشورى هي الطريق الصحيح لمعرفة أصوب الآراء والوصول إلى الحقيقة وجلاء الأمر ،
وهي أثر طبيعي لاحترام العقل ، كما أنها من مقتضي تكريم الله للإنسان ، وهي مظهر
من مظاهر المساواة وحرية الرأي والنقد والاعتراف بشخصية الفرد . والشورى تربية للفرد
على أداء وظيفته الاجتماعية عن طريق تهيئة الفرصة له لأن يبرز في المجتمع فيربي
ملكاته وينمي قدراته حتى يكون أهلاً للمشورة ، وهذا يدعوه إلى الاستزادة من العلم
والمعرفة ، وذلك أن انفراد شخص بالرأي في أمر عام يتعلق بالجميع ودون اعتبار
للآخرين فيه ظلم وإجحاف ، وهو يتضمن نوعًا من تعظيم النفس واحتقار الرأي العام .
والشورى سبيل لمعرفة الرأي الصائب عن طريق مناقشة الآراء وظهور أفضلها ، وهي سبب
لقلة الخطأ ، وبها يستفاد من جهود الآخرين وخبراتهم ، وهي عصمة لولي الأمر من
الإقدام على أمور تضرّ الأمة ولايشعر هو بضررها ، وهي تذكير للأمة بأنها صاحبة
السلطان ، وتذكير لرئيس الدولة بأنه وكيل عنها في مباشرة السلطان(3).
والإعلام
في المجتمع الإسلامي، مسؤول عن إشاعة مناخ الشورى وروح الحوار البناء والمناقشة
الإيجابية ، إسهامًا منه في الوصول إلى أحكم القرارات . وللجماعة المسلمة حق إلزام
الفرد المسلم والجماعة لسلطان الشورى والإجماع ، فوسائل الإعلام في المجتمع
الإسلامي الحديث تستطيع أن تربّي في المجتمع روح المشاورة ، وتصونها وتحميها وتغار
عليها وتنتقد من يستخف بها أو يحيف عليها.
فمن
واجب الإعلام تيسير عمل الشورى وسريانها في جميع شرايين المجتمع ومختلف أرجائه ،
وعليه أن يتأكد من إجراء المناصحة وتبادل الآراء ، مع إفساح صفحات الجرائد
والمجلات ، وبرامج الإذاعات المسموعة والمرئية ، ومنابر الجمعيات ، لكي يتسع مجال
الحوار والمناقشة تحقيقًا لمبدأ الشورى .
فالإعلام
الإسلامي بذلك يتيح الفرصة لإجتماع آراء المؤمنين وأفكارهم وتنقيحها وتصنيفها ،
وبذاك يسمو الفكر وتترقى العقول وتتفاعل الآراء ، ويخف حجاب الغفلة ، وتشحذ
الأذهان وتتحاور العقول ، وتتلاقح الآراء فتنضج ويتبين الصواب ، ويتضح سبيل الحق .
والإعلام بذلك يشيع روح التعاون والتناصح والمحبة ، ويؤلف بين القلوب ، ويشعر
الجميع بأن مصلحتهم واحدة، فتتنبه الأذهان للأفكار الصالحة ، والتصرفات الموافقة
للشريعة ، مما يؤدي إلى إتخاذ أصوب الأفكار المبنية على أفضل الآراء وأحكمها ،
وهكذا يتكون الرأي العام الإسلامي على أساس الشورى ومن خلالها .
وفي
كل ذلك يتخذ الإعلام ضوابطه من قيم الإسلام الأصيلة وأساليبه الرفيعة وأهدافه
السامية ووسائله الشريفة ، وكلها تصدر عن الدين وتذكّر بحقائقه ، وتؤكد ضرورة
السعي لتحقيق مقاصده ، مع التصدي لأعداء الدين وردّ مكائدهم وإيضاح الحقائق لتصل
إلى جميع الآذان البشرية في عرض شائق جذاب تتوافر له عناصر القوة والموضوعية
والسداد ، مع حرص على الوضوح والعمق والإقناع والبعد عن الإملال ، وبذلك يتحقق
مناخ الشورى المؤدي إلى سلامة الرأي وعمومة(4).
ثانيًا :
العدالية والمساواة :
وهذه
أيضًا قاعدة كلية ومبدأ من مبادئ الإسلام يجب العمل به .. ووسائل تطبيقها متروكة
لتغير الأزمان والأحوال ، إذ المهم هو تطبيقها بأية صورة يراها مجلس الشورى أو أهل
الحل والعقد استلهامًا من أحكام الإسلام. قال تعالى :
﴿وَإِذَا
حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أنْ تَحْكُمُوْا بِالْعَدْلِ﴾(5).
وللمساواة
«مظاهر
كثيرة في جميع جوانب التشريع الإسلامي ، منها المساواة أمام القانون ، وفي تطبيق
الأحكام ، وفي المراكز القانونية إذا ما تساوى الأشخاص في الشروط التي يشترطها
التشريع الإسلامي ، ومساواة في التكاليف إذا تساوى الأفراد في أسبابها الموجبة... »
(6).
والعدالة
في الإسلام مبدأ بارز ، يظهر هذا البروز في الأمر بها والحكم بين الناس بموجبها ،
والالتزام بمقتضاها بالنسبة للقريب والبعيد ، والعدو والصديق ، وفي المحكمة وفي
السوق ، وإدارة كل شؤون الدولة وفي البيت وحتى فيما يعطيه الأب لأولاده أن روح
العدل وجوهره إعطاء كل ذي حق حقه واستعمال كل شيء في موضعه . وهذا المعنى الواسع
للعدل يحكم جميع تصرفات الإنسان وعلاقاته بغيره ووجباته نحو غيره من بني الإنسان(7).
والمهم
فيما نذكره هنا هو الاستفادة من هذا المبدأ إعلاميًا ، وجعله نبراسًا لكل الدعاة
والإعلاميين؛ ليتسلحوا به ويعرّفوا جوانبه والأصول التطبيقية له ..
وما
أوسع هذا الجانب الذي من الممكن أن تسخر له الوسائل الإعلامية ، وتعطي مردودًا
حسنًا وثمرات طيبة إن شاء الله .. وذلك بالصور التالية:
(أ)
الإعلام والتأليف والترجمة في هذا المبدأ ، سواء عن طريق المؤتمرات أو مراكز
البحوث ، وتقديمها إلى المحاكم الدولية وتوزيعها على المفكرين والقانونيين في
العالم ، لبيان مايحمله هذه التشريع من جانب فريد لايعتمد على الأمر المحسوس فقط ،
بل فيه عنصر الخشية من الله ، الذي يعتبر سرّ العدالة في الإسلام .
(ب)
تقديم صور من عدالة الإسلام وسماحته في شكل قصص للأطفال ، لتربيتهم وتنشئتهم على
حبّ هذا المبدأ والتحلّي به .
(ج)
استخلاص هذا المبدأ من السيرة العطرة للرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم ،
ومن سيرة الخلفاء الراشدين ، وبخاصة عمر بن الخطاب ، ثم حفيده عمر بن عبد العزيز ،
وتقديمه بأساليب شتى ، مما يوافق الشريعة ، للتربية والتعليم والتثقيف.
(د)
يحفل التأريخ بأخبار أمراء وقضاة وعلماء كانت لهم مواقف بطولية نادرة ، في قول
كلمة الحق والقضاء به .. دون خوف من ظالم أو محاباة لقريب .. وقد يكون من النافع
هنا الإشارة إلى جعل هذه القصص الواقعية مسلسلات أو أفلامًا تسجل وتصور بأسلوب
مشوق وإخراج جميل ، ثم توزيعها في شرائط .. ويشترط أن تكون هذه المسلسلات حائزة
على موافقة الجهة الشرعية المسؤولة .
هذا
بشكل عام .
ومن
الناحية الإخبارية ، أي استخدام مبدأ العدل في الإعلام ، يحدثنا الدكتور «إبراهيم
إمام»
عن ذلك فيقول:
هو
أعلام يلتزم بالعدل والميزان بالقسط مهما كانت الظروف والأحوال ، فلا ينحاز إلى
شخص أو إلى طبقة أو إلى جنس أو إلى قومية أو إلى منفعة مادية : ﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِيْن آمَنُوْا كُوْنُوْا قَوَّامِيْنَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ
وَلَوْ عَلى أنْفُسِكُمْ أوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِيْنَ ، إنْ يَكُنْ
غَنِيًا أوْ فَقِيْرًا فَاللهُ أوْلـٰـى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوْا الْهَوٰى
أنْ تَعْدِلُوْا وَإنْ تَلْوُوْا أو تُعْرِضُوْا فَإنَّ الله كَانَ بِمَا
تَعْمَلُوْنَ خَبِيْرًا﴾(8).
فالمعيار
الإسلامي عند النقد والتعليق والتوجيه هو الحق الذي أراده الله تعالى ، ولايمكن
الوقوف إلى جانب الأغنياء لأنهم أغنياء كما يحدث في الدول الرأسمالية ، أو إلى
جانب الفقراء والدهماء من الطبقة الكادحة كما تزعم الدول الشيوعية ، ذلك لأن
الإعلام الإسلامي يشتق معاييره وقيمه من العقيدة الإسلامية ، وهو يتحرى الصواب
ويبتعد عن التعصب وينأى عن التحيّز للمال أو الجاه أو العرق أو القومية .
وحتى
إذا تناول قضايا الخصوم والأعداء فإنه يكون عادلاً منصفًا ، لقوله تعالى : ﴿يَا
أيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا كُوْنُوْا قَوَّامِيْنَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ،
وَلاَيَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى ألاَّ تَعْدِلُوْا اِعْدلُوْا هُوَ
أقْرَبُ لِلتَّقْوٰى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيْرٌ بِمَا
تَعْمَلُوْنَ﴾(9).
وهكذا
يصبح ضمير الإعلامي المسلم وثقافته الأصيلة وروحه الأمينة دافعًا له على قول الحق
مهما كانت الإغراءات المالية أو السياسية أو الضغوط الاجتماعية ، فرقابة الضمير هي
التي تحقق نجاح الإعلام ، حيث أخفقت جميع صنوف الرقابة الإدارية والمجالس الصحفية
والإعلامية ولجان تقصي الحقائق . فبالرغم من هذه الإجراءات والمؤسسات لم يتحسن
موقف الإعلام الغربي السادر في إثارته للغرائز ، والمتردي في نشر أخبار الجريمة
والعنف بأساليب تهدد بسلامة المجتمع ، فقيم الإسلام النابعة من الإيمان بالله
الواحد القهار هي أقوى الدعامات التي ينبني عليها الإعلام الإسلامي الصحيح(10).
ثالثًا :
لاضرر ولاضرار :
ومما
يدلّ على عطاء هذه الشريعة وتجددها المستمر على مدى الزمان والأيام ، أنها أتت
بقواعد تشريعية ميسرة مستنبطة من استقراء النصوص وأسباب النزول ووقائع الأحداث
ومقاصد الشريعة، مثل قاعدة «لاضرر
ولاضرار»
وهي حديث نبوي ، ومعناها أن الضرر مرفوع بحكم الشريعة ، أي لايجوز لأحد إيقاع
الضرر بنفسه أو بغيره ، و«الضرر
لايزال بالضرر»
لأنه عبث وإفساد لامعنى له .. وهكذا تتوالى القواعد الحكمية في هذا الجانب:
«الضرر
يزال»
.
«يتحمل
الضرر الخاص لدفع الضرر العام».
«الضرورات
تبيح المحظورات»
.
«ما
أبيح للضرورة يقدر بقدرها»
.
«درء
المفسدة يقدم على جلب المصلحة»
.
وهناك
فروع وأحكام كثيرة بنيت على هذه القاعدة . منها تقرير حق الشفعة ، ومنع التعسف في
استعمال الحق ، وحق السلطة في اتخاذ الإجراءات الوقائية لمنع الضرر عن الناس ،
كحجر المرضى والقادمين إلى البلاد في محاجر خاصة ، والتسعير في ظروف معينة ... الخ(11).
والإعلام
واحد من الجوانب التي تنسحب عليه هــذه الفــروع والأحكام، بكل ماتحمله من معنى
وإرشادات وتصويبات . بل ما أحوج الإعلام اليوم للالتــزام بهذه القــواعــد ، حتى
لايظل متخبطاً في جاهليته وظلامه . فلايجوز – مثلاً – تقديم أية مادة إعلامية فيها
ضرر بالأمة ، ولا يجوز الكشف عن أية عورة للبلاد وثغورها ومحمياتها وأسرارها
العسكرية إلا بإذن من الجهات الرسمية ، لئلا يلحق ضررًا بالبلاد ويدل الأعداء على
المخابئ والأسرار!
كما
لا يجوز إنتاج الأفلام الخليعة وعرض التمثيليات والمسلسلات الماجنة ، وتقديم
البرامج أو المنوعات التي تركز على الموسيقي والغناء مما له أثر في أخلاق
المستقبلين وسلوكهم . وإذا وجد أي نوع مما يخالف السياسة الإعلامية في نظام
الإسلام ، فإنه يزال حسب القاعدة السابقة .
وبشكل
عام ، فإننا نصل إلى أن المرونة والحيوية التي تتصف بها الشريعة الإسلامية حتى في
قواعدها الثابتة ، ينعكس أمرها على الإعلام الإسلامي بشكل إيجابي ملموس ، ويجعل من
الأجيال المسلمة المتعاقبة شعلة من النشاط في الدعوة إلى الله ، وبيان أنه نابض
بالحياة .. كما هو ناطق بالحق .
* * *
الهوامش:
(1)
أصول الدعوة . عبد الكريم زيدان ، ص 62 .
(2)
هذه الدعوة ماطبيعتها ، عبد الله علوان ، ص 36-37 . والآية في سورة
الشورى ، رقم 38 .
(3)
الرأي العام في الإسلام . محيي الدين عبد الحليم – القاهرة: مكتبة
الخانجي ؛ الرياض : دارة الرفاعي ، 1403هـ ، 1982م ، ص 49 . نقلها الكاتب المذكور
من كتاب الشورى وأثرها في الديمقراطية لعبد الحميد إسماعيل الأنصاري ص 5-7 .
(4)
أصول الإعلام الإسلامي ، إبراهيم إمام ، ص 230-231 .
(5)
سورة النساء ، الآية 58 .
(6)
أصول الدعوة ، عبد الكريم زيدان ، ص 62 .
(7)
المصدر نفسه ، ص 63 .
(8)
سورة النساء ، الآية 135 .
(9)
سورة المائدة ، الآية 8 .
(10)
أصول الإعلام الإسلامي . إبراهيم إمام ، ص 47-48 .
(11)
أنظر أصول الدعوة . عبد الكريم زيدان ، ص 63-64. وهذه الدعوة ماطبيعتها .
عبد الله علوان ، ص 42 .
* * *
* *
مجلة
الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ربيع الأول – ربيع الثاني
1427هـ = أبريل – مايو 2006م ، العـدد : 3–4 ، السنـة : 30.